الخليفة المعتصم بالله العباسي: سيفُ الدولة وقاهرُ الروم
الخليفة المعتصم بالله العباسي: سيفُ الدولة وقاهرُ الروم
👑 من هو المعتصم بالله؟
هو محمد بن هارون الرشيد، المعروف بلقبه "المعتصم بالله"، وهو ثامن خلفاء الدولة العباسية، وُلد في عام 180هـ (796م)، في بيت الخلافة العباسية المهيب، لأبٍ هو هارون الرشيد، أحد أعظم خلفاء الإسلام، وأمٍّ كانت جارية تركية الأصل، مما ساهم لاحقًا في ميل المعتصم للاعتماد على العنصر التركي في جيشه.
تولى المعتصم الخلافة عام 218هـ (833م) بعد وفاة أخيه الخليفة المأمون، فاستلم الحكم في فترة كانت فيها الدولة بحاجة إلى قائد قوي يعيد لها هيبتها ويضبط أمورها الداخلية والخارجية. وقد كان المعتصم على قدر هذه المسؤولية، إذ كان شجاعًا، حازمًا، واسع الحيلة، وذا شخصية عسكرية فذة.
تميّز بلياقة بدنية نادرة وقوة جسدية عظيمة، حتى قيل إنه كان يثني الحديد بيديه، وكان فرسان الجيش يرهبونه من شدة بأسه، فاستحق أن يُقال فيه: "كان إذا سار، سارت معه الهيبة، وإذا غضب اهتزّ له القصر".
ومنذ شبابه، تلقى تربية صارمة داخل القصر العباسي، وتشرّب معاني الفروسية والولاء للدولة، كما اكتسب الخبرة الإدارية والعسكرية من عمله إلى جوار أخيه المأمون في الحملات والمهام السياسية، مما هيّأه لقيادة الأمة في واحدة من أكثر مراحلها حساسية.
🏙 تأسيس مدينة سامرّاء
يُعد تأسيس مدينة سامرّاء من أعظم الإنجازات العمرانية في عهد الخليفة المعتصم بالله، وهو حدثٌ لم يكن مجرد توسّع عمراني، بل قرارًا استراتيجيًا له أبعاده السياسية والعسكرية والاجتماعية.
ففي فترة حكمه، ازداد اعتماد المعتصم على الجيش التركي، الذين كان قد استجلبهم ودربهم على الولاء والانضباط العسكري، ولكن وجود هذا العدد الكبير من الجنود الأتراك داخل بغداد – المدينة العريقة والمزدحمة – أدى إلى توترات واحتكاكات مع السكان، ما تسبب في عدة اضطرابات وفوضى أمنية.
فقرّر المعتصم نقل العاصمة من بغداد إلى موقع جديد شمالها، ليؤسس مدينة خاصة يتمكّن فيها من تنظيم جيشه وحكم الدولة دون إزعاج أهل بغداد. فوقع اختياره على موقع جميل وهادئ، ليُنشئ عليه مدينة "سامرّاء" عام 221هـ (836م)، وسرعان ما أصبحت عاصمة الدولة العباسية، ومقرًا للخلافة طوال 56 عامًا.
تميزت سامرّاء بجمال تخطيطها العمراني، وتوزيع القصور، والمرافق، والمساجد. ولا تزال آثارها قائمة حتى اليوم، وأشهرها مئذنة "الملوية" الحلزونية التي تُعد معجزة هندسية من عصرها، وشاهدة على براعة العمارة العباسية.
وسُمّيت المدينة بـ"سامرّاء" من عبارة "سرّ من رأى"، أي أن من يراها يسرّه جمالها، ثم عُرِفت لاحقًا بـ"سامرّاء" في الاستخدام اللغوي الدارج.
⚔ قصة "وامعتصماه"... عندما هبّ الإسلام للنجدة
في صفحات التاريخ الإسلامي، تتلألأ مواقف الخليفة المعتصم بالله العباسي بضياء العزّة والنجدة، ولعلّ قصة المرأة المسلمة التي صاحت "وامعتصماه!" تظل من أشهر الملاحم التي تجسّد الشهامة الإسلامية والغيرة على العرض.
يروي المؤرخون أن امرأة مسلمة كانت ضمن أسرى المسلمين في مدينة "زِبَطرة" قرب حدود الدولة البيزنطية (الروم)، وقد أساء إليها أحد الجنود، فصرخت من أعماق قلبها: "وامعتصماه!"، وكان هذا النداء صرخة أمل في زمنٍ اشتدّت فيه المحن.
وصلت تلك الصرخة إلى الخليفة في بغداد، فانتفض المعتصم وقال مقولته الشهيرة:
"لبيكِ يا أخت الإسلام!"
ثم أقسم أن لا يهنأ له عيش حتى ينتصر لتلك المرأة ويُذلّ من اعتدى عليها، فجهّز جيشًا قُدّر بعشرات الآلاف، وخرج يقودهم بنفسه نحو معاقل الروم، متجهًا إلى مدينة "عمّورية"، إحدى أهم الحصون البيزنطية في آسيا الصغرى، والتي لم تسبق أن اقتُحمت من قبل.
وفي عام 223هـ / 838م، دارت معركة ضارية بين جيش الإسلام وجيوش الإمبراطور الرومي "ثيوفيلوس"، انتهت بـ فتح مدينة عمورية ورفع راية الإسلام فيها. وقد خُلّدت هذه المعركة في الشعر العربي، وخلّدها الشاعر أبو تمام بقصيدته التي قال فيها:
السيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ
في حدّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
بيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائفِ في
متونهن جلاءُ الشك والريبِ
وهي من أشهر القصائد التي ربطت بين الشعر والسياسة والجهاد، وجعلت من المعتصم رمزًا للغَيرة الإسلامية والردّ القاطع على الإهانة.
📚 مصدر موثوق للقصيدة وقصة الفتح:
- ديوان أبي تمام (القصيدة الكاملة):
archive.org/details/DiwanAbiTammam - قصة فتح عمورية من "البداية والنهاية" لابن كثير:
al-maktaba.org/book/32833/2896
⚖️ عدله وقوته… هيبة الخليفة وشرف المسؤولية
لم يكن الخليفة المعتصم بالله العباسي مجرد قائد للجيش أو فاتح للمدن، بل كان رمزًا للعدل وهيبة الحكم الإسلامي. فقد جمع بين قوة القرار وبصيرة الحاكم، وسار على نهج الخلفاء الراشدين في إقامة العدل دون تمييز بين الناس، قريبًا من العامة، حازمًا مع الخاصة.
اهتم المعتصم بتنظيم مؤسسات الدولة، فاستكمل إصلاحات أخيه المأمون، وأعاد ضبط الدواوين (الوزارات)، ورتب شؤون الجند والمالية والقضاء، ليضمن استقرار الدولة، ويمنع الفساد من التسرّب إلى مفاصل الحكم.
ومن أروع المواقف في سيرته ما رُوي أنه أقام الحدّ الشرعي على أحد أبنائه بعدما ثبت عليه الذنب، دون أن يشفع له نسبه أو منزلته، في مشهدٍ تتجلى فيه العدالة الإسلامية الخالدة، حيث لا فرق بين ابن الخليفة وابن الفقير أمام شرع الله.
قال بعض المؤرخين:
"كان المعتصم إذا جلس على كرسي الحكم، تبدّلت ملامحه، فلا يُجامل ولا يُحابي، وتُهاب منه الملوك، وتطمئن إليه الرعية."
وبذلك جعل من العدل سيفًا لا يُغمد، ومن الحزم درعًا لا يُثلم، حتى عُرف بين خلفاء بني العباس بـ"الخليفة القوي العادل"، وكان الناس يقولون في زمانه:
"دخل المعتصم بغداد، فدخل معها النظام والأمن."
📚 مصادر موثوقة:
- سير أعلام النبلاء للذهبي (ترجمة المعتصم):
islamweb.net/ar/library/index.php?page=bookcontents&flag=1&bk_no=60&ID=295 - البداية والنهاية لابن كثير – أحداث سنة 218 هـ وما بعدها:
al-maktaba.org/book/32833/2873
🧠 بين العقل والقوة… الخليفة الذي جمع السيف والقلم
رغم ما عُرف به المعتصم بالله من شدّة وبأس عسكري، فإنه لم يكن رجلاً غليظ القلب ولا صاحب رأي منفرد، بل كان واسع الأفق، يقدّر أهل العلم، ويجلّ الفقهاء وأهل الرأي، حريصًا على الاستشارة قبل اتخاذ القرارات الكبرى. فقد ورث عن والده هارون الرشيد وأخيه المأمون حب العلم والعلماء، وكان يجلس إلى حلقات الفقه والكلام، ويصغي للمفكرين والمحدّثين.
لكن، وكما يقع السيف الحاد في غير موضعه أحيانًا، وقع المعتصم تحت تأثير الفكر المعتزلي الذي تبنّاه أخوه المأمون قبله، لا سيما في مسألة "خلق القرآن"، وهي من أخطر الفتن التي عصفت بالأمة الإسلامية في العصر العباسي، حيث أُجبر بعض العلماء على القول بخلق القرآن خلافًا لما عليه السلف.
ورغم اتباعه لهذه العقيدة، لم يبلغ المعتصم في شدته ما بلغه المأمون، ولم يكن سفاكًا للدماء، بل كان مترددًا في المضي بالقهر، وقد أظهر شيئًا من التراجع لاحقًا، وبدأت نار الفتنة تخبو في أواخر أيامه. ومن أشهر الحوادث في عهده محاكمة الإمام أحمد بن حنبل، حيث صبر الإمام على التعذيب، ورفض القول بخلق القرآن، فبقي المعتصم ممزقًا بين احترامه لشجاعة الإمام، والتزامه بآراء المعتزلة.
قال بعض المؤرخين:
"لم يُعهد عن المعتصم أنه أراق دمًا في فتنة القول بخلق القرآن، كما فعل من قبله ومن بعده، بل كان حذرًا، مترددًا، يكظم غيظه، ويحاول حفظ وجه الدولة."
وهكذا، مثّل المعتصم نموذجًا فريدًا لخليفة مزج بين السيف والعقل، وجعل من القوة وسيلة لحماية الدين والعدل، وإن تعثر أحيانًا في بعض مواقفه، فقد بقي أثره في صفحات العزة الإسلامية.
📚 مصادر موثوقة:
- كتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل – عبد الغني الدقر:
archive.org/details/MihnatAhmad - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي – ج10
islamweb.net
🏁 وفاته… رحيل فارس الدولة العباسية
توفي الخليفة المعتصم بالله العباسي سنة 227هـ / 842م، بعد تسع سنوات من الخلافة اتسمت بالقوة والتنظيم والانتصار لكرامة المسلمين. ورحل عن الدنيا بعدما ترك بصمة لا تُمحى في سجل الخلفاء المجاهدين، جامعًا بين شجاعة الفاتحين وحكمة رجال الدولة.
في عهده، عادت هيبة الخلافة الإسلامية أمام القوى المعادية، خاصة بعد فتح مدينة عمورية، التي كانت قلعة من قلاع الروم في آسيا الصغرى. وكان ذلك نصرًا لا يُنسى، جعل اسمه خالدًا في ذاكرة الأمة.
كما أن مشروعه العمراني ببناء سامرّاء ظل شاهدًا على حنكته السياسية والتنظيمية، وحرصه على استقرار الحكم. ورغم ما أُخذ عليه من تأثره ببعض أفكار المعتزلة، فقد ظل يُذكر بين الخلفاء الأقوياء الذين حفظوا وحدة الأمة، ورفعوا راية العدل، وردعوا الظلم، ونصروا المستغيثين.
🔹 قال المؤرخ ابن كثير في البداية والنهاية (ج10):
"وكان المعتصم من خيار الخلفاء وأجلّهم، فيه حلم وسياسة، وشدة وعزم، وكان إذا سار سارت معه الهيبة."
🔗 للاستزادة من المصادر التاريخية حول المعتصم:
- البداية والنهاية – ابن كثير:
https://shamela.ws/book/8747/1340 - الكامل في التاريخ – ابن الأثير:
https://shamela.ws/book/11184/1443
📚 الدروس المستفادة مقارنةً بواقع اليوم:
1. القيادة الحقيقية لا تتجاهل صرخة المستضعفين
في زمان المعتصم، صرخة امرأة واحدة كانت كافية لتحريك جيشٍ بأكمله.
أما اليوم، فصرخات آلاف الأرواح في فلسطين، وسوريا، واليمن، وغيرها تمرّ بلا استجابة، أو تُقابل بالبيانات الباردة.
🔎 الدرس: القائد الحقيقي هو من يعتبر كرامة الفرد من كرامة الأمة، ولا يتأخر عن النصرة الفعلية.
2. قوة الدولة تُبنى على العدل قبل السلاح
المعتصم لم يكن مجرد قائد عسكري، بل أرسى قواعد العدل الداخلي، وهيبة الدولة من الداخل، قبل أن يواجه الأعداء بالخارج.
🔎 الدرس: لا يمكن للأمة أن تنتصر على خصومها ما لم تقم العدالة بين أبنائها، وتُحاسب الظالم مهما علا شأنه.
3. العصبية الصالحة أساس لنهضة الأمة
كما قال ابن خلدون، فإن قوة الدول تقوم حين يجتمع الناس على هدفٍ نبيل، تحت راية قائدٍ عادل.
المعتصم وحد الصفوف، ونقل العاصمة، ورتب الجيش، ووجه طاقاته نحو العدو، لا نحو الداخل.
🔎 الدرس: يجب أن نوجه طاقاتنا اليوم نحو تحرير الأوطان وبناء المستقبل، لا نحو النزاعات الداخلية والخلافات المذهبية أو القومية.
4. النصر يبدأ من الإرادة
لم يكن لدى المعتصم تقنيات حديثة، ولا طائرات مسيّرة، لكن كانت لديه إرادة لا تلين، وعقيدة لا تنكسر.
🔎 الدرس: النصر لا يأتي بالأدوات فقط، بل بالعزيمة والإيمان والقيادة الراشدة.
5. عزة الأمة ليست خيارًا... بل فريضة
كان المعتصم يرى في الذل عارًا لا يُحتمل، وفي نصرة الأمة شرفًا لا يُفوّت.
🔎 الدرس: كرامة الأمة مسؤولية جماعية، يجب أن يربي القادة والشعوب أنفسهم على أنها أولوية لا تُساوَم.
🧭 خلاصة أخلاقية معاصرة:
"إذا كان المعتصم قد نصر امرأة في عمورية، أفلا تجتمع أمتنا اليوم لنصرة آلاف الأرواح المظلومة؟"
"وإذا كان قد أقام الحدّ على ولده، أفلا يُقيم حكّام اليوم الحق على أنفسهم قبل غيرهم؟"
🔗 مصادر مفيدة:
- العصبية في فكر ابن خلدون – مجلة الفكر الإسلامي المعاصر
- فتح عمورية – المكتبة الشاملة
- المعتصم بالله – موسوعة ويكي مصدر
📌 الخلاصة:
كان الخليفة المعتصم بالله نموذجًا فريدًا في التاريخ الإسلامي، جمع بين القوة والعدل، والحزم والرحمة، فاستحق أن يُذكر بين أعظم الخلفاء الذين ذادوا عن الأمة وصانوا هيبتها. لم يكن مجرد رجل حرب، بل كان رجل دولة بامتياز، أعاد بناء الجبهة الداخلية بتأسيس سامرّاء، وواجه التحديات الخارجية بفتوحه التي لا تُنسى، وعلى رأسها فتح عمورية.
وقد جسّد المعتصم مفهوم "العصبية الصالحة" الذي تحدث عنه ابن خلدون، حين قال إن الدول لا تقوم إلا بتماسك جماعي تقوده عصبية قوية تُبنى على الدين والعدل والشجاعة، لا على النسب والهوى.
ففي شخصية المعتصم، نرى كيف أن اجتماع الناس حول قائد قوي وعادل قادر على أن يمنحهم الأمن والعزة، ويُعيد للدولة هيبتها وسط الأمم.
ولعل في سيرته عبرة لكل حاكم ومسؤول، أن القيادة ليست قوة السيف فقط، بل أيضًا قوة المبدأ، وعدالة القرار، وصدق النصرة للمظلوم، حتى لو كانت صرخة امرأة في أقاصي الثغور.
🔗 للاطلاع على نظرية العصبية عند ابن خلدون:
– المقدمة – ابن خلدون – المكتبة الشاملة
– دراسة علمية: العصبية عند ابن خلدون – مجلة العلوم الاجتماعية – جامعة الكويت
🔗 روابط مفيدة:
ختامًا: تبرّع لأهل غزة وكن سببًا في نجاتهم
قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" [رواه البخاري].
يمكنك التبرع عبر الروابط التالية الموثوقة:
رابط 1 – رابط 2 – رابط 3 – رابط 4
(اطلع على القائمة الكاملة هنا)
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقك و أي استفسارات لتعم الفائدة